التعليم والحياة

أجريت إحصائيتين على 30 ألف موظف و 600 مسؤول توظيف في أمريكا, حيث تم استطلاع آراءهم بخصوص مدى أهمية تخصصهم الجامعي أو مكانة جامعتهم التي تخرجوا منها في نجاحهم المهني. فكانت النتيجة المفاجئة هي أن أكثر من 70% منهم يرون أنه لم يكن لشهادتهم الجامعية أو مرتبة الجامعة التي تخرجوا منها تأثير كبير في نجاحهم واستقرارهم الحياتي (المصدر) ورأوا أن السبب الأساسي لكل نجاح حققوه هو “الخبرات” التي خاضوها قبل التخرج والمهارات التي حصلوها. كما أبدى مسؤولو التوظيف رأيا مشابها حيث أشار أكثر من 80% منهم إلى أن ما يهمهم عند التوظيف هو كم الدراية والمعرفة عند الموظف وأكد 70% منهم أنهم لا يهتمون بالشهادة بقدر المهارات التي عند المتقدمين للوظيفة, بينما وضع 8% فقط منهم أي أهمية على مدى عراقة ومكانة الجامعة التي يتخرج منها المتقدم للعمل(المصدر).

حينما تفكر في نوعية التعليم الجيد, وكيف تقدمه لطفلك, فإن المعيار الأهم والأساسي هو ارتباط هذا التعليم بالحياة. أنفق ما شئت في مصاريف المدرسة الخاصة أو الجري وراء الدروس, ولكن في النهاية لو لم يكن لهذا مردود في تنمية مهارات طفلك -لا تغطية المناهج- فأنت تضيع وقتك ووقت الطفل والأسوأ أنك لم تعده في هذه الفترة الطويلة لمواجهة الحياة والنجاح فيها.
هل هذه مبالغة؟ أم أن الواقع ينبئنا عن تغير جذري في مفهوم التأهيل والتعليم؟ فبعدما كان يكفي التخرج والحصول على شهادة في الماضي, صار الآن المطلوب ممن يريد النجاح والتقدم في الحياة أن يكون أكثر من مجرد “خريج”. فلننظر أولا لبعض الإحصاءات والدراسات حول هذا الموضوع:
1- يعمل 48% من المتخرجين من الجامعات الأمريكية في وظائف أقل من مؤهلهم (أي أنهم لا ينتفعون بهذه السنوات والأموال التي حصلوا فيها على الشهادة لأنهم في النهاية يعملون في وظائف لا تحتاج أصلا لخريج جامعة فضلا عن خريج في تخصصهم الذي أنفقوا فيه سنوات عمرهم)
قد يظن البعض أن هذا أمر ثانوي فالمهم أنهم يعملون ويجدون وظائف, ولكن الخبراء في تحليل أسباب هذه النسبة الكبيرة لا يجدون سببا يدفع هؤلاء لقبول مهن أقل من مؤهلهم التعليمي إلا أنهم لم يتمكنوا من المنافسة على الأماكن القليلة التي تحتاج لمستواهم التعليمي وبالتالي فقد اضطروا لقبول ماهو أقل من الوظائف التي يمكنهم شغلها لأنهم لم يطوروا مهارات تميزهم عن غيرهم من الحاصين على نفس الدرجة التعليمية.(المصدر)
2- يعمل 29% فقط من المتخرجين جامعيا في مجال تخصصهم, ويتنقل مايزيد على 70% منهم بين وظائف ومهن لا علاقة لها بما درسوه في الجامعة. بل إن هذه النسبة تنخفض إلى 26% في بعض المدن الاقل نموا من العواصم الكبري. أي أن ما يهم ليس هو التخصص أو نوع الجامعة, فهذه لم تعد مؤشرا لنوع المهنة التي ستعمل بها أو مدى النجاح الذي ستحققه, بل المهم هو ما حصلته من مهارات شخصية وقدرات على إدارة حياتك, وهذا هو التعليم الحقيقي الذي يساعدك في وظيفتك.(المصدر)
3- بالرغم من النمو الاقتصادي المطرد إلا أن هناك عجزا وانخفاضا في مواكبة دخول المتخريجين من الجامعة مع معدلات التضخم في أمريكا, أي أن “قيمة” المهن التي يعملون فيها سوقيا لم ترتفع لتواكب ارتفاع الأسعار والخدمات فكلها انخفضت قيمتها السوقية. لا يقتصر هذا على الخريجين من تخصصات معينة بل هو أمر واقع في كل طبقات وتخصصات الخريجين.(المصدر)

إذا أضفنا هذه النتائج الثلاثة إلى الدراستين المذكورتين في مقدمة المقال فإننا نرى صورة قد تبدو غير المتوقع: التعليم التقليدي لم يعد كافيا, انه يفقد قيمته ببطء ويستبدل بالسعي وراء من يملكون مهارات مختلفة عن مجرد “الشهادة”, يسعى السوق الآن إلى المتميزين والأشخاص التقليديين سيدفع لهم أقل مما يستحقون, ويسعى العلم والتطور إلى استبدال المهن والأنشطة التقليدية بالذكاء الصناعي والروبوتات ولن يبقى للبشر إلا العمل كمبدعين ومختلفين وجامعين للتخصصات المختلفة في سياق متميز أو العمل كبديل “أرخص” من الآلات المتاحة وبالطبع في ظروف عمل أسوأ من المتاح حاليا ومع منافسة كبيرة وكثرة للبدائل المتاحة لكل موظف في موقع تقليدي.

إن كل ولي أمر يطمح لولده في مستقبل ناجح, ويسعى لتأمين هذا المستقبل مهما كلفه الأمر, تجند الأسرة مواردها وتسرف في التخطيط من أجل تحقيق ذلك. ولكن تبقى الحقيقة قائمة: التعليم بصورته الحالية يهمل ويخنق مواهب العديد من الأطفال. الكثير من هؤلاء الأطفال سيعمل مستقبلا في مجال لا علاقة له بما تعلمه, والغالبية العظمى منهم سيكتشف أنه بحاجة للكثير من المواهب التكميلية لكي ينجح في مهنته, وهذه المهارات للأسف لا تهتم بها المدرسة. كما سيكتشف الكثير من الأطفال أنه كل هذا الجهد الذي أنفقه في حفظ خريطة مصر وكم طنا من البرتقال تنتج كل عام هو في الحقيقة جهد مهدر, فلا هو بعد حفظ الخريطة بقادر على السفر في طول مصر وعرضها بمهارة وسلاسة معتمدا على حفظه, ولا هو يذكر كم طنا من أي محصول تنتج مصر ولو تذكر فلا نفع لأن هذه الأرقام تتغير كثيرا كل عام.

فما هو الحل؟ ما هو المدخل الصحيح للتعليم؟

إن أي تعليم لا ينطلق من الحياة ولا يخدم الحياة هو جهد ترفي لا ينتج منه ترقي الإنسان ولا يبنى عليه عمل نافع. فلابد أن يكون التعليم مرتبطا بواقع الحياة, قابلا للتطبيق فيها, مؤثرا في حياة الطفل وفي مستقبله. يجب دائما أن يستوعب الطفل أن ما يتعلمه له فائدة وتطبيق في حياته ويمكنه أن يحل به مشاكله ويغير به واقعه. هذا يعطي الطفل ثقة في ما يتعلمه, ويجعله ذو حس عملي تطبيقي, وأيضا يجعله مدركا أن العلم والتعلم هو جزء من الحياة وليس أمرا “نفعله في المدرسة” ثم نأخذ منه أجازة. فيتحول عندها العلم من عبء وواجب ثقيل إلى مصدر لدعم الطفل وتوسيع مداركه وثقته بما يمكنه عمله.

التعليم يجب أيضا أن يثير الحماس في نفس الطفل ويحرك فضوله ويدفعه دفعا للسعي للعلم. فالتعليم صار نشاطا جوهريا لا يمكن توقفه في عالم متجدد باستمرار, فكل موظف مميز يجب أن يكون دائما على قدرة على تعلم الجديد في مجاله, ويستطيع أن يدرس أمرا ما من جوانب متعددة فلم يعد هناك تخصص معزول عن باقي مجالات العلوم بل كلها تتكامل وتتشابك ولهذا يجب أن يكون شعار التعليم هو “تعليم مدى الحياة”. كيف يمكن أن غرس هذا في نفس الطفل؟ الحل هو أن يتفاعل الطفل مع التعلم, ويعتبره أمرا يسعى هو إليه لا أمرا مفروضا عليه. أي أن طرق التعليم والطرح يجب أن تختلف عن كتاب موضوع ل”تحقيق أهداف الوزارة”. يجب أن يكون التعليم خبرة شعورية, يتساءل الطفل فيها ويناقش وينفعل ويتحمس, يجب أن ترتبط الدروس بقصص ومواقف وتجارب مميزة من حياته, يجب أن يعتاد الطفل الفضول وأن يكون مدركا لأنه ليس فقط مسموحا له بالنقاش والسؤال بل هو مرحب به في ذلك.

التعليم الصحيح يجب أن يكون مواكبا لتطورات العصر, فيمكنه أن يعدل من نفسه ليتضمن خبرات جديدة أو ينتهز فرص تعليمية أتيحت حديثا. يجب أن يكون هناك تطلع دائم لتقديم معارف وعلوم جديدة وإضافتها للخطة التعليمية, وأن يكون من الممكن التخلي عن أي أجزاء من المناهج فيها حشو أو معلومات غير قيمة. يجب أن يكون نظاما سهل التعديل, منفتح على فكرة التغيير والتجديد. كما يجب أن يكون قادرا على تلقي مشاركات من مصادر مختلفة متنوعة دون أن يحصل خلل أو ربكة في النظام كله. كذلك يجب أم يكون النظام قادرا على تعديل نفسه لكي يكون مناسبا للطفل ولطريقة استيعابه وتفكيره, وأن يسمح بالوقت الكافي للطفل لهضم ما يقدمه له من مفاهيم, وأن يمهله كي يستوعب بالمعدل المناسب له وكذلك أن يسير بسرعته ولا يعوقه ويبطء سيره إذا أنهى التعلم بسرعة.

كذلك يجب أن يكون التعليم مرتكزا بالأساس على المهارات التي يمكن أن يستخدمها الطفل أكثر بكثير من المعلومات, فالكثير من المعلومات تتغير أو تصبح بمرور الوقت غير ذات قيمة (لازالت حتى الآن مناهج الكومبيوتر تعلم الطفل ماهو الويندور وماهو الماوس بينما الأطفال أغلبهم الآن يستخدم جهازا نقالا منذ نعومة أظافره, هذا والعالم يسعى جاهدا لتطوير وسائل الاتصال بالآلة لتشمل النظر واللمس والحركة وحتى التفكير المجرد!) فالتركيز يحب دائما أن يكون على المهارات التي سيكتسبها الطفل وليس المعلومات التي يستظهرها, وبالتالي فالتقييم يجب أن يكون مرنا ويسمح للطفل بحرية أكبر في التعبير عن مهارته التي اكتسبها, وتوظيفها في أنواع مختلفة من المشاكل ليبرهن على أنه اكتسب المهارة التي نطلبها.

وأخيرا يجب أن يكون التعليم شموليا في مهاراته, يتعرف ويتعرض للمهارات المهمة في الحياة والتي يؤكد المتخصصون على أنها أساسية للنجاح. يجب أن يتضمن مهارات من جوانب مختلفة وأن يكون متوازنا في هذه المهارات فلا يغلب منها جانب المهارات العلمية على المهارات الاجتماعية ولا يجعل المهارات الاجتماعية طاغية على المهارات الذاتية والشخصية. والأهم ألا يغفل أي مهارات ثبت علميا أنها مهمة للغاية ولا غنى عنها. هذه الحزمة من المهارات المتوازنة هي ما يسميه الخبراء “مهارات القرن الحادي والعشرين”.

هذا يبدو صعبا! كيف نحقق كل هذا؟

القناعة الأولى والأهم هي إدراك أنه لابد أن تقوم الأسرة ذاتيا بتنمية ومتابعة هذه المهارات. لأنه لا توجد مدرسة ولا مؤسسة تقدم لك حلا شاملا وافيا لتغطية المهارات اللازمة لطفلك من النواحي المتعددة. فالمؤسسات التعليمية في العادة تقدم حلولا جماعية, فمن شبه المستحيل أن تقدم مدرسا أو مدربا مخصصا لكل طفل يركز معه ويراقب أي الجوانب بحاجة لتنمية وتطوير وما هي الوسيلة الأفضل لتحقيق هذا (هذا بفرض أن المؤسسات تضع الأهداف الصحيحة لتركز عليها وليس فقط التحصيل والدرجة والشهادة).

القناعة الثانية هي أن قدرتك على تحقيق ذلك مع أطفالك هو هدف طويل المدى يحتاج للاستمرار والتدرج وأن يكون التعلم والتطور جزءا من الحياة, فبالتأكيد لن تغطي كل المهارات المطلوبة في وقت واحد مع بعضها, وبالتأكيد لن تنتهي من هذه المهارات كلها في غضون سنة أو سنتين. فيجب أن يكون لديك الاستعداد لتطوير نفسك وزيادة قدراتك ومهاراتك. وأن يكون هذا التطوير بهدف عملي مباشر, أي أنك حين تدرس كورسا أو كتابا فيجب أن تسعى للتطبيق العملي لكل جزء تقرؤه أو تتعلمه, وأن يكون التطبيق لأمر يشترك فيه أطفالك, فبهذه الطريقة تزيد مهارتك العملية التنفيذية وكذلك تتشجع لمزيد من التطوير حين ترى الأثر العملي على أرض الواقع. في هذا المقال تجدون مصادر مرشحة للدورات المجانية أونلاين التي تفيدكم في تطوير أنفسكم وطريقتكم في التعامل مع التعليم عموما.

القناعة الثالثة هي أن تدرك أنك بحاجة لمعرفة أصلا ماهي المهارات الهامة للنجاح في العصر الحديث؟ وماهي آراء الخبراء في هذا المجال؟ وماهو موقفك أنت شخصيا من هذه المهارات؟ هل تمتلك تلك المهارات؟ هل تعرف كيفية توصيلها للطفل؟ هل تقدر على ممارستها أمامه بشكل عملي؟ هل تعرف من يمكنه أن يفعل ذلك بدلا منك لو كنت لا تقدر؟ هذه المعرفة مهمة جدا لتحديد ما تسعى له ولتعرف أن هناك سقفا أعلى بكثير من المنهج الدراسي أو الكورسات التي تركز على مهارات بعينها كالبرمجة أو اللغات. في هذا المقال تجد قائمة مرشحة بأهم المهارات التي يركز الخبراء عليها كأدوات أساسية للنجاح في العصر الحديث.

الختام

بعد هذا الاستعراض يمكن أن نصل إلى خطة عمل واضحة ومحددة للوصول لتعليم مرتبط بالحياة ومتصل بأطفالك وجدانيا وفكريا. هذه الخطة مبنية على ثلاث خطوات أساسية:
1- التفعيل: لا تنتظر ولا تتردد كثيرا, ابدأ واختر مهارة واحدة من قائمة المهارات لتعمل عليها مع أطفالك. احرص أن يكون التطبيق مرتبطا بحياة الطفل ومؤثرا فيه. فكما قلنا : أي تعليم لا ينطلق من الحياة ولا يخدم الحياة هو جهد ترفي لا ينتج منه ترقي الإنسان ولا يبنى عليه عمل نافع.
2- التطوير: لابد من تطوير لكم كما تطورون أطفالكم, ابدأوا واختاروا لأنفسكم دورة من الدورات التي رشحناها لكم في خطة تأهيل المعلم المتطور. ابدأوا بالأشياء التي تحسون أنها تجذب انتباهكم, وحفزوا أنفسكم بالكلام عما تتعلموه مع غيركم ومناقشته مع الأصدقاء.
3- التكرار: لابد من مداومة وتكرار ولا يجب أن تنقطعوا أو تيأسوا, حتى لو لم تروا ثمرة مباشرة فكل جهد تبذلونه لا يذهب سدى مع أطفالكم, هو فقط ينتظر الوقت المناسب للظهور.

وفي النهاية نرجو أن تكون هذه الكلمات نقطة بداية لكم على طريق التعليم المرتبط بالحياة والواقع والذي ينبض ويتفاعل وليس جامدا مقولبا مكروها من الكبار والصغار.

2 comments

  • Hoda Kamal Ahmed

    بنتي في الصف الخامس الابتدائي لغات اريد ابدا معها تعليم مرن هل انا تاخرت واذا ينفع هل فيه جروبات استطيع التواصل معها في هذه المرحلة وايه المناهج أو البرامج اللي اقدر اشتغل معها بها

    • فريق التعليم المرن

      أهلا هدى, بالطبع يمكنكم البدء معها في هذا العمر أو أكبر, يمكنكم الرجوع لسلسلة مقالات التخطيط هنا في الموقع وإرسال أسئلتكم على أي شيء غير واضح فيها

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *