لماذا يُعدّ العالم الحديث خطرًا على دماغك؟
لكن هناك سم في العسل! بالرغم من أننا نعتقد أننا نقوم بالعديد من الأشياء في وقتٍ واحد، فتعدد المهام وهم قويّ وشيطانيّ. إيرل ميلر ـ عالم أعصاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا وأحد خبراء العالم في انقسام الاهتمامات ـ يقول أن أدمغتنا “غير مجهزة لتعدد المهام بشكل تام… فعندما يظن الناس أنهم يقومون بعدة مهام في آنٍ واحد هم في الحقيقة ينتقلون من مهمة إلى أخرى بسرعة كبيرة. وفي كل مرة يقومون بذلك فهنالك تكلفة إدراكية يتكبدونها من جراء هذا”. اذن فنحن في الحقيقة لا نحتفظ بالكثير من الكرات في الهواء كبهلوانيّ محترف، بل نحن أشبه بهاوٍ سيء يديرُ الألواح في الهواء، فتجدنا نتحول بشكل محموم من مهمة واحدة إلى أخرى متجاهلين تلك التي ليست أمامنا ، قلقون من ان تنهار في أي لحظة. بالرغم من أننا نعتقد أننا ننجز الكثير، الا ان تعدد المهام يجعلنا أقلّ كفاءة بشكلٍ واضح و ياللسخرية!
لقد وُجد أن تعدد المهام يزيد إنتاج هرموون الإجهاد (الكورتيزول) كما أنه يكافح هرمون الأدرينالين، والذي يمكن أن يحفزّ الدماغ بشكل مفرط مسببا ضبابًا ذهنيًا أو تفكيرًا مشوشًا.
تعدد المهام يخلق إدمانًا لحلقة ردود الفعل بسبب هرمون الدوبامين، الذي يكافآ الدماغ لفقدانه التركيز ولبحثه المستمرّ عن مؤثر خارجيّ. ولجعل الأمور أكثر سوءًا فإن قشرة الفصّ الجبهي لديها نزعة إبداعية، وهذا يعني أن اهتمامها يمكن أن يُخطف بسهولة لشيء جديد – كالأشياء اللامعة الّتي نستخدمها لإغراء الأطفال الرضع، الجراء، والقطط-.
والمفارقة هنا واضحة جدا بالنسبة لأولئك من بيننا الذين يحاولون التركيز وسط الأنشطة التنافسيّة، فمنطقة الدماغ الّتي نحتاج للإعتماد عليها للبقاء على المهمّة يُمكن أن يُشتت تركيزها بسهولة. نحن نقوم بالرد على الهاتف، نبحث عن شيءٍ ما على شبكة الانترنت، نتفقدّ بريدنا الإلكترونيّ، نقوم بإرسال رسالة نصيّة قصيرة، وكلٌ من هذه الأشياء تعدل مساعي الابتداع، ومساعي المكافأة في مراكز الدماغ، مما يسبب إنفجار المواد الأفيونية بشكل ذاتي (فلا عجب بأنّها تُشعرنا بمشاعر جيّدة) وكلها على حساب بقائنا على مهمّة واحدة. في نهاية المطاف فذلك أشبه بتقديم حلوى خالية من السعرات الحرارية للدماغ، بدلًا من جني المكافآت الكبيرة الّتي تأتي نتيجةً لجهود مستدامة ومُركّزة، فبدلًا من ذلك نحن نجني مكافآت فارغة بإكمال آلاف من المهام المغلّفة بالسكر.
في الأيّام الخوالي، إذا رنّ جرسُ الهاتف وكنّا منشغلين كنّا لا نجيب عليه أو نُطفئ صوت الرنين. فحين كانت آسلاك الهواتف كلها متصلة بالجدران لم يكن هناك أي توقعات لإمكانية وصول الآخرين إلينا في كل وقت -فقد يخرج المرء للتنزّه سيرًا على الأقدام أو يتنقل بين الأماكن – لذلك إذا لم يتمكن شخصٌ من الوصول إليك (أو أنك لم تشعر بالرغبة في التواصل مع الآخرين) فقد كان ذلك يُعد أمرًا طبيعيًا. آما الآن يملك المزيد من الناس هواتف محمولة أكثر مما يملكون المراحيض. وقد خلق هذا توقعًا ضمنيًا بأنّه يجب أن تستطيع الوصول لأي شخص حين يكون ذلك مناسبا لك انت، بغضّ النظر عما إذا كان ذلك مناسبا له.
هذا التوقع راسخ بدرجة كبيرة حتّى أنّ الناس في الاجتماعات الروتينية يجيبون على هواتفهم ليقولوا “أنا متأسف، لا أستطيع التحدث الآن فأنا في اجتماع” قبل عقد أو عقدين فقط، أولئك الأشخاص أنفسهم كانوا يتركون خطوط هواتفهم الأرضيّة دون إجابة خلال الاجتماع، فقد كانت توقعات القدرة على التواصل مختلفة جدًا.
مجرد وجود فرصة لتعدد المهام يدمر الأداء الإدراكي. جلين ويلسون، أستاذ زائر سابق في علم النفس بكلية جريشام، لندن، يُسمي هئه الظاهرة الهوس المعلوماتي (infomania).
اكتشف في بحثه أنّ التواجد في حالٍ تحاول فيها التركيز على مهمّة ما، بينما ثمة بريد إلكترونيّ غير مقروء في الصندوق الوارد الخاصّ بك يمكن أن يقلل من فاعلية معدل ذكائك بنسبة 10 نقاط.
وبالرغم من أن الكثير من الناس يعزون العديد من الفوائد للماريجوانا، من ضمنها تعزيزُ الإبداع وتخفيض الألم والإجهاد،الا ان الكانابينول(Cannabino)- او المكون الرئيسي للماريجوانا قد تم توثيقه على انه ينشط مُستقبلات الكانابينول المخصصة في الدماغ ويتدخلّ بعمق في الذاكرة وفي قدرتنا على التركيز على عدة أمور في وقتٍ واحد.
كما اظهر ويلسون أن الخسائر الإدراكيّة نتيجة تعدد المهام أكبر من الخسائر الإدراكيّة الّتي يسببها تدخين المخدرات.
روس بولدراك ـ عالم أعصاب في جامعة ستانفورد، وجد أن تعلّم المعلوماتٍ أثناء أداء العديد من المهام يسببّ ذهاب المعلومات الجديدة إلى جزء خاطئ في الدماغ.
فإذا كان الطلاب يشاهدون التلفاز ويدرسون في آنٍ واحد على سبيل المثال، فإنّ المعلومات من واجبهم الدراسيّ تذهبُ إلى المخطط وهي منطقة مخصصة لتخزين الإجراءات والمهارات الجديدة وليست لتخزين الحقائق والأفكار.
دون التشتيت الذي يسببه التلفاز تذهب المعلومات إلى الحصين، حيث يتمّ تنظيمها وتصنيفها إلى مجموعات بطرق متنوّعة مما يجعل إستردادها يسيرًا.
ويضيف إيرل ميلر من معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا : “الناس لا تستطيع أن تؤدي عدّة مهام في وقت واحد بشكل جيد للغاية، وعندما يقولون أنهم يستطيعون فعل ذلك فإنهم يخدعون أنفسهم” واتضح أن الدماغ ماهر جدًا في هذه العمليات الخادعة.
بالإضافة أنّ هنالك التكاليف الأيضية الّتي كتبت عنها في وقتٍ سابق، فمُطالبة الدماغ بتحويل الإنتباه من نشاط إلى آخر يسببّ حرق الجلوكوز المؤكسد لقشرة الفصّ الجبهي والمخطط، وهو نفس الوقود الذي تحتاجه للبقاء على المهمة.
وهذا النوع السريع من التحويل المستمر الذي نقوم به بين المهام المتعددة يتسبب في حرق وقود الدماغ بسرعة كبيرة حيث نشعر بالإنهاك والتشويش حتى بعد مرور وقتٍ قصير. فقد نضب -حرفيًا- المورد المغذيّ لأدمغتنا.
وعلى النقيض من ذلك، فالبقاء على المهمّة يتم السيطرة عليه من قِبل القشرة الحزامية الأمامية والمخطط، وحالما ننخرط في الوضع التنفيذي بتركيز، فإنّ البقاء في تلك الحالة يستهلك قدرًا أقلّ من الطاقة الّتي يستهلكها تعدد المهام، كما أنه يقللّ من حاجة الدماغ للجلوكوز.
العاملون في الحكومة وفي الفنون وفي الصناعة يقولون أنّ الحجم الهائل من رسائل البريد الإلكترونيّ الّتي يتلقونها يغمرهم حتى انه يستقطع جزءًا كبيرًا من يومهم. نحن نشعر اننا مرغمون على إجابة رسائل البريد الإلكترونيّ، ولكن يبدو من المستحيل القيام بذلك وإنجاز أمور أخرى في آنٍ واحد.
على الصعيد الاخر، فانه بسبب السرعة التي توفرها رسائل البريد الإلكترونيّ فمعظمنا لا يفكّر كثيرا عند كتابة ما يخطر بباله وعند ضغط زرّ الإلرسال. كما ان البريد الإلكترونيّ لا يكلّف شيئًا في النهاية.
بالطبع هنالك المال الذي دفعته لشراء حاسوبك وللإتصال بالإنترنت، ولكن ليس هنالك أية تكاليف إضافية لإرسال بريدٍ إلكترونيّ آخر. قارن هذا مع الرسائل الورقيّة، كلّ واحد تكبّد ثمن المغلّف والطوابع البريدية، وبرغم أنّ هذا لا يكلّف الكثير من المال فكمية هذه الادوات، فإن نفدت لديك فقد كان عليك أن تذهب في رحلة خاصّة إلى المكتبة ومكتب البريد لشراء المزيد، لذلك فقد كنت تستخدمهم بحذر.
ان سهولة إرسال رسائل البريد الإلكتروني أدت إلى تغيّر السلوكيات،كالميل إلى أن نكون أقلّ تهذيبًا فيما نريد طلبه من الآخرين. العديد من المهنيين يروون قصصًا متماثلة،حيث قال أحدهم: “هناك نسبة كبيرة من رسائل البريد الإلكترونيّ الّتي أتلقاها من أناس بالكاد أعرفهم يطلبون مني أن أقوم بفعل شيء مما هو خارج نطاق عملي أو علاقتي بهم لأجلهم. البريد الإكترونيّ بطريقة أو بأخرى يجعل طلبهم هذه الأشياء منّي امرا عاديًا فيما لن يطلبوها منّي عبر الهاتف أو بشكلّ شخصيّ أو في البريد العاديّ”.
هناك أيضًا اختلافات هامّة بين البريد العاديّ والبريد الإلكترونيّ على الطرف المتلقيّ.
في الأيام الخوالي، البريد الوحيد الذي كنا نتلقاه كان يأتي مرّة واحدة في اليوم، الامر الذي نجح في تخصيص جزء من يومك لجمع فحوى صندوق البريد وترتيبه. الأهمّ من ذلك أنّه، لم يكن هنالك أي توقّع بأنّك كنت ستتفاعل معه على الفور حيث انه كان يستغرق بضعة أيّام ليصل اليك.
وإذا كنت منخرطًا في نشاطٍ آخر، فقد كنت ببساطة تترك البريد في الصندوق أو تضعه على المكتب حتى تكون على استعداد للتعامل معه. أما الآن فرسائل البريد الإلكترونيّ تصل بشكلٍ مستمرّ، ومعظمهاّ تُطالبك باتخاذ ردّة فعل: اضغط على هذا الزرّ لرؤية فيديو لطفل الباندا، أو قم بالإجابة على هذه الاستبيان لزميل في عملك، أو ضع خطة لتناول الغداء مع صديق، أو قم بحذف هذا البريد الإلكترونيّ لأنه بريدٌ مؤذي. كلّ هذا النشاط يعطينا شعورًا بالإنجاز، وفي بعض الحالات فهو كذلك فعلًا. ولكننا نضحيّ بالكفاءة والتركيز العميق عندما نقاطع الأنشطة الّتي تحتلّ أولوياتنا برسائل البريد الإلكترونيّ.
إذا قام ذات الشخص بالتواصل بواسطة خطاب استدعاء يُسلّم بواسطة ضابطٍ من المحكمة، كنت ستتوقع رسالة مختلفة قبل حتى أن تقرأ الوثيقة. وبالمثل فقد كانت المكالمات الهاتفية تستخدم عادة للقيام بآعمال تختلف عن تلك التي تقوم بها البرقيات أو الرسائل التجارية. اذن فقد كان الوسط المستخدم هو خير دليل على الرسالة المراد تبليغها. كلّ هذا تغيّر مع ظهور البريد الإلكترونيّ، وهذا واحد من سلبياته الّتي يُغضّ الطرف عنها لأنه أصبح يستخدم في كلّ شيء.
لكن رسائل البريد الإلكترونيّ تستخدم لجميع الرسائل في حياتنا. ونحن مضطرون للتحققّ من بريدنا الإلكترونيّ باستمرار لأننا لا نعرف إن كانت الرسالة التالية ستكون للتسلية أو بشأن فاتورة تأخرت في سدادها، قائمة مهامّ جديدة أو استعلام حول شيءٍ ما، شيء يمكنك القيام به الآن أو في وقت لاحق، شيء قد يغيّر حياتك، أو شيء لا علاقة لك به.
هذا الغموض من شأنه أن يُدمّر سرعة نظام التصنيف في إدراكنا الحسيّ، كما أنه يسبب الإجهاد ويؤدي إلى الإفراط في اتخاذ القرارات. فكلّ بريد إلكترونيّ يُطالبك باتخاذ قرار! فتجد نفسك تتسآل: “هل يتوجبّ علي الرد عليه؟ إذا كان يتوجب عليّ ذلك فهل أفعله الآن أم في وقتٍ لاحق؟ ما مدى أهمية ذلك؟ وماذا ستكون العواقب الاجتماعية والاقتصادية أو المتعلقة بالعمل إن لم أجب عليه، أو إن لم اجب عليه الآن؟”
نجد الآن بالطبع أن البريد الإلكترونيّ يقترب من أن يُصبح وسيلة آيلةً للزوال. معظم الناس تحت سنّ الثلاثين يعتبرون البريد الإلكترونيّ وسيلة قديمة للتواصل يستخدمها كبار السنّ فقط. وبدلًا عنها فهم يقومون بتبادل الراساىل النصية ، والبعض لايزال يستخدم الفيسبوك. يُرفقون الوثائق والصور والفيديوهات وروابط لرسائلهم النصيّة و منشوراتهم عالفيسبوك تماما كما يستخدم الأشخاص فوق سن الثلاثين البريد الإلكترونيّ. العديد من الأشخاص تحت سنّ العشرين يعتبرون أن الفيسبوك هو وسيلة للجيل الأكبر سنًا.
فبذلك تكون قد حصلت على وصفة للإدمان: تتلقى رسالة نصيّة، وهذا ينشطّ مراكز الإبداع لديك. تقوم بالردّ عليها وتشعر بالإنجاز لأنّه انتهيت من المهمّة (على الرغم أنّ تلك المهمّة كانت مجهولة بالنسبة لك تماما قبل 15 ثانية مضت).
كلٌ من تلك الرسائل تضخ جرعة من الدوبامين (dopamine) لديك كما أنّ جهازك الطرفيّ يصرخ “المزيد! المزيد! أعطني المزيد!”
في تجربة شهيرة، قام زميلاي في ماكجيل بيتر ميلنر و جيمس أولدز وكلاهما عالما أعصاب بوضع قطب صغير في أدمغة فئران المختبر، بداخل هيكل صغير بالجهاز الطرفي يُسمّى النواة المتكئة، هذا الهيكل يقوم بتنظيم إنتاج الدوبامين وهو تلك المنطقة الّتي “تضيء” عندما يفوز المقامرون بالرهان، وعندما يتعاطى المدمنون الكوكايين، أو عند نشوة الجماع، يُطلق عليها أولدز وميلنر مسمى مركز المتعة.
في كلّ مرة نقوم فيها بإرسال رسالة بالبريد الإلكترونيّ بشكلٍ أو بآخر فإننا نكتسب شعورًا بالإنجاز، والدماغ يحصل على وجبة غنيّة بالهرمونات المكافأة لتخبرنا بأننا أنجزنا شيئًا ما. في كلّ مرة نقوم فيها بتفقد التحديثات في التويتر أو الفيسبوك نُصادف امرا جديدا ونشعر اكثر بإلارتباطٍ الاجتماعي ( بشكل غريب وغير شخصيّ عبر الإنترنت) ونحصل على وجبة أخرى من الهرمونات المكافآة.
ولكن تذكّر إنّه الجزء الساذج من العقل الذي يبحث عن كل ما هو جديد هو الذي يقود الجهاز الطرفي لتحريك هذا الشعور بالمتعة، وليست المراكز المسئولة عن التخطيط والجدولة و عمليات التفكير العليا في قشرة الفص الجبهي. تآكد تماما ان تفقد البريد الإكتروني و الفيسبوك والتويتر يسببون إدمانًا عصبيًا.
(1)البودكاست هو ملف صوتي رقمي متاح للتحميل من الانترنت على أي جهاز.