فصول بلا كراسي: كيف يجلس أبناء القرن الـ 21 للتعلم

تنويه: نشر هذا المقال مسبقا على موقع إضاءات في الرابط التالي
https://www.ida2at.com/classes-without-chairs-how-the-sons-of-21st-century-sit-to-learn/

ينفق أصحاب المشاريع والخدمات الكثير من الوقت في تصميم مكان العمل أو مكان تقديم الخدمات للجمهور. بل إن فرعا كاملا من العلوم (التصميم الداخلي) قد نشأ خصيصا لدراسة كيفية تصميم وتطوير أماكن العمل والخدمات لتحقيق الاستفادة المثلى منها. ومن الغريب أنه مع كل هذا التطور وكل تلك الأبحاث فإن الفصل المدرسي وكراسيه المميزة في تراصها المتتابع يبقيان علامة ثابتة من القرون الماضية دون تطوير يذكر، أو هكذا ظلا حتى بداية العقد الحالي.

مع بداية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين, بدأت المطالبات والمبادرات في العمل على تغيير هذا الشكل التقليدي المقولب للطالب والمعيق للتواصل الفعال بين الزملاء. فقد بدأت العجلة في الدوران في اتجاه جديد في التعليم، وصار من المقبول مناقشة أفكار لم تكن واردة من قبل. وبعدما كان المدرس هو مركز العملية التعليمية، صار الاتجاه الآن إلى جعل الطالب في المركز.

السكون عدو التعلم

تعد الوظيفة الأولى لكرسي الطالب هي حبسه بلا حراك خلال الحصة المدرسية. وقد يبدو لأول وهلة أن هذا خيار منطقي لمساعدة الطلبة على التركيز والمتابعة مع المدرس. ولكن الحقيقة أن هذا الحبس والتثبيت الإجباري قد يمنع الطلبة عن التركيز، فالجلوس ليس مهمة بسيطة كما يخيل لنا. بل إن الجلوس يتضمن الكثير من الحركات البسيطة والتحميل على العضلات وتعديل وضع العمود الفقري للمحافظة على التوازن. كل هذا المجهود نقوم به بلا وعي للحركات وتلقائيا إلا أنه يؤثر على المدى البعيد في تركيزنا وتعلمنا. ولهذا نجد أن الكثير من الأبحاث تشير إلى علاقة الحركة الحرة البسيطة بزيادة التعلم والتركيز.

وقد حاولت عدة مدارس أن تفيد من تلك الدراسات، فبدأنا نرى أمثلة عملية مدهشة للسماح للطلبة بالحركة أثناء الفصل. ففي إحدى المدارس في (بنسلفانيا) بالولايات المتحدة الأمريكية، قامت إحدى المدرسات باستبدال الكراسي في فصلها وجعلت كل طالب يجلس على «كرة نطاطة» (Bouncy ball)! وهكذا صار مشهدا مألوفا أن تدخل فصلها لتجد الطلبة وقد جلسوا في دوائر حول عدة منضدات، وكل منهم يتحرك بسهولة على كرة مطاطية عملاقة بينما يقوم بحل الأسئلة المدرسية وكتابة الدروس.

هذه التجربة المتميزة ليست فريدة من نوعها. بل إن الكثير من الأبحاث تشير إلى فوائد استبدال الكراسي التقليدية بالكرات النطاطة في الفصل المدرسي. فقد وجدت الدراسات أن هذا التطوير يساعد كثيرا على احتواء الطلبة المصابين بفرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD). كما أنها تساعد الطلبة عموما على التركيز والتخلص من الطاقة الزائدة مما يقلل من العدوانية في وقت اللعب الحر ويساعدهم على إيجاد متنفس عن الكبت الذي يشعرون به في فصولهم.

حرك قدميك!

على جانب آخر، فقد كانت هناك محاولات لاستبدال الكرسي التقليدي بمساند على مستوى الطالب وهو واقف على قدميه. هذه «المكاتب الواقفة» (Standing desks) هي محاولة أخرى لتحرير الطلبة من قيد الجلوس. إن الوقوف والحركة أكثر صحة بكثير من الجلوس لساعات طويلة، وهو ما حدا بعض النشطاء إلى تأسيس منظمة خيرية اسمها «قفوا أيها الأطفال» للتوعية بأخطار الجلوس لساعات طويلة، والتأكيد أن أمراض السمنة والسكر ليست بعيدة عن أطفالنا.

هذا إلى جانب أن السماح للطلبة بالوقوف داخل الفصل قد تبين أن له فوائد جمة في التفاعل مع المدرس والمادة المشروحة والتركيز. وهي أيضا تسمح للمدرس بمزيد من الحرية في الحركة والتنقل بين الطلبة ومتابعة ما يفعلونه. ويجب التنويه أيضا أن تلك التجارب لم تكن تمنع الطلبة من الجلوس إن أرادوا ذلك، ولكنها تسمح لهم أن يقفوا وأن يميلوا بجسدهم إلى زاوية وأن ينظروا بحرية حولهم. والمكاتب الواقفة تشجعهم أن ينكبوا على دروسهم بتركيز ودون الشعور بالتقيد أو الإجبار على الجلوس.

هذه المحاولات للسماح للطلبة بالحركة في الفصل هي جزء من تيار كبير قد بدأ في الكثير من المدارس. ففي مدرسة بمدينة (رالي) بولاية (كارولينا الشمالية) في الولايات المتحدة الأمريكية، قام أحد المدرسين بفكرة تبدو لأول وهلة صادمة للغاية. فبدلا من الكراسي التقليدية قام بتزويد كراسي الطلبة بـــ «بدال عجلة»! وهكذا صار من المعتاد أن ترى الطلبة وقد انهمكوا في التبديل وهم جالسون في كراسيهم يستمعون للشروح ويحلون واجباتهم المدرسية. وقد أكد المدرسون والطلبة إعجابهم بهذه الفكرة، كما لوحظ انخفاض المشاحنات والمشادات بين الطلبة وزيادة تركيزهم في الدروس.

أما في إحدى مدارس مدينة (برامبتون) الكندية، فقد نقلت واحدة من المعلمات هذه الفكرة إلى مستوى أكثر تحررا. فبدلا من البحث عن نوع جديد من الكراسي ليحل محل النوع التقليدي، قامت تلك المدرسة بإزالة كل الأثاث من الفصل، وفرشته بالموكيت! وفي كل يوم يجتمع الطلبة ليجلسوا على الأرض في دائرة حول المعلمة لتبادل الحديث بطريقة غير رسمية ولا متزمتة. وصار من المألوف أن ترى الطلبة وقد تمددوا أرضا وهم يقرأون كتبهم المدرسة بكل راحة! أو أن تراهم وقد تربعوا في جلسة حميمة بجانب مدرستهم لمناقشة مشاعرهم وأفكارهم. وهو ما ينقلنا إلى الفوائد الأعم من وراء تغيير ذلك التكوين الجامد للفصول، وهو الجانب النفسي والاجتماعي.

فصلك هو محيطك الاجتماعي

إن النظرة التقليدية للتعليم والتي ترى وجوب منع الطلبة من التواصل أثناء الحصة المدرسية لم تعد تناسب عالما صار النجاح فيه قائما على المهارة الاجتماعية كما هو قائم على الذكاء والعبقرية. فصار من واجب المدرس أن يشجع على التواصل البناء بين الطلبة. ولم يعد النقل من زميلك «غشا» بل هو تبادل للأفكار وتناقل لها. ولكن من خطايا الفصل التقليدي أنه يمنع ذلك التواصل ويستفيد من كراسي الفصل الموجهة للأمام دائما كوسيلة لتحجيم تواصل الطلبة مع بعضهم البعض. ولهذا كان من الأهداف الأساسية لحركة نزع الكراسي من الفصول أن يتحول الفصل إلى بيئة تواصل وعمل خلاق وإبداعي.

ففي مدرسة بمدينة (مابلتن) بولاية (داكوتا الشمالية) بالولايات المتحدة الأمريكية، قامت إحدى المدرسات بإزالة كل الكراسي من الفصل واستبدلتها بالأرائك والكراسي المريحة وبعض الـ «شلتات» المغرية بالجلوس والاسترخاء، وقالت في مقابلة أن ما ألهمها بهذا التأثيث الجديد هو … مقهى (ستار بكس)! لقد أرادت لفصلها أن يكون بيئة للتواصل الاجتماعي البناء والجلوس المريح المحرر للعقل. وهكذا صار من الطبيعي أن ترى «كنبة» في ركن بالفصل وقد جلس عليها طالبان منهمكان في نقاش حول إحدى المسائل المطلوبة في الواجب. أو أن ترى طالبا مسترخيا على حشية وهو يقرأ في كتابه المدرسي.

وليست هذه التجربة مجرد فكرة طارئة لمدرسة جريئة. فإن الأبحاث العلمية تشير إلى أهمية جعل الاحتكاك والنقاش وتبادل الأفكار جزءا أساسيا من العمل المدرسي اليومي. وقد بينت تلك الأبحاث أن أثر تغيير بيئة الفصل لتشجع النقاش والتواصل بين الطلبة هو أثر مهم وواضح في الإبداع وزيادة الثقة بالنفس والمهارات الاجتماعية، كما أنه أثر يبقى وينعكس لاحقا عند خروج الطلبة إلى سوق العمل.

فصول من تصميم الطلبة

أما أكثر تلك التجارب تميزا في تغيير شكل الفصل، فكانت التجارب المتعددة التي وضعت في اعتبارها الرأي المباشر لـ «زبون» الفصل المستديم: الطالب نفسه. فمع تطور النظرة الواعية للتعليم، صار من المنادى به دوما هو إشراك الطلبة في اتخاذ القرارات والخيارات حيال تعليمهم وبيئتهم التعليمية. وقد ثبت علميا أن اعطاء الخيارات والمسؤولية هو من أكثر المحفزات للإنسان ليخرج أفضل ما عنده من أداء.

ففي ولاية (كنتاكي) قامت (تراسي) المدرسة بمدرسة (لويسفيل) الابتدائية بعمل ثورة على وضع فصلها الحالي. ولكن بدلا من استبدال الكراسي بما تراه مناسبا، فقد قامت بعمل اجتماع للفصل لمناقشة التصميم الجديد، وقامت باستعراض البدائل والأفكار المتاحة معهم في عرض تقديمي. ثم نظمت معهم جلسة عصف ذهني، شارك فيها الطلبة بأفكارهم وآرائهم، قبل أن تقوم بتحويل تلك الأفكار إلى حقيقة عملية. وتحول الفصل من مكان لـ «شرح الدروس» إلى بيئة للتعلم والنمو، حيث يشعر الطلبة أنه فصلهم هم وليس مكانا غريبا مفروضا عليهم.

وليست (تراسي) منفردة في هذه الفكرة الثورية، فقد قامت مدرسة (هارتلاند-ليكسايد) بالكامل بإعادة تصميم فصولها كله ا بناءً على آراء الطلبة والمدرسين. حيث وضعوا تصميمات جديدة ومبدعة تناسب كافة احتياجات اليوم الدراسي. فهناك كراسي دوارة تسمح بالحركة يمنة ويسارا، وهناك كنبات وحشيات للجلوس المريح والاسترخاء أثناء المطالعة. وهناك أيضا كراسي يمكن توصيلها ببعضها لتكوين وحدات تصلح للمناقشة والكتابة بالتبادل. وهناك منضدات عالية وأخرى منخفضة تناسب الجلوس على الأرض. وهكذا صارت البيئة غنية ومتنوعة وتقدم هدفها الأساسي: مساعدة الطلبة والمدرسين على أداء مهامهم على أكمل وجه كما لو كانوا في بيئة عمل وليس مدرسة تقليدية متزمتة.

ربما أهم فائدة نستخلصها من هذه التجارب الفريدة هو ألا نأخذ شيئا في البيئة التعليمية كثوابت مسلم بها. وأن التعديل والتطوير يكون أكثر تأثيرا حين نبدأ من القواعد الأساسية للعملية التعليمية, وأنه ربما حان الوقت أن نقوم نحن كمربين بالسماح لأطفالنا بالمذاكرة على الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *